فتوى العلامة محمد الولاتي فيما يفعله أهل المغرب من الذبح على قبور الصالحين والاستغاثة بهم
وسئلت أيضًا عن الحكم الشرعي فيما يفعله أهل المغرب من الذبح على قبور الصالحين تقربًا بهم في قضاء حوائجهم وندائهم للموتى واستغاثتهم بهم يطلبون منهم حوائجهم، يقولون يا فلان اقض لي حاجتي الفلانية، ومنهم من يقول يا فلان توسلت بك إلى الله تعالى في قضاء حاجتي. فسئلتُ عن الذبح المذكور هل هو بدعة محرمة فقط أو كفر أعاذنا الله منه أو كبيرة فقط؟ وعن طلب الحوائج من الأولياء أصحاب القبور والاستغاثة بهم هل هو بدعة محرمة أم لا؟.
فأجبت، والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب، بأن الذبح على قبور الأولياء تقربًا إليهم في قضاء الحوائج بمنزلة الذبح على الصنم تقربًا إليه بذلك. فإن قالوا نحن لا نعتقدهم آلهة ولكنا نتقرب إليهم بالذبح ليتوسطوا بيننا وبين الله تعالى في قضاء حوائجنا، قلنا لهم كذلك عبدة الأصنام فإنهم قالوا مثل هذه القولة ولم يخرجهم ذلك عن دائرة الشرك- أعاذنا الله منه- كما حكي الله تعالى ذلك عنهم بقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}([1]) فلا فرق بين من تقرب إلى الولي بالذبح عند قبره في قضاء حوائجه يعتقد أنه واسطة بينه وبين الله تعالى وبين عابد الصنم في تقربه إليه بالذبح عنده لقضاء حوائجه يعتقد أنه واسطة بينه وبين الله تعالى، لأن الولي مخلوق لا ينفع ولا يضر ولا تأثير له كما أن الصنم كذلك، فقد كان الذبح على الأصنام والذبح على القبور من سنة الجاهلية فحرَّمها الله تعالى على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- وحرَّم تعالى في كتابه العزيز الذبح على الأصنام تقربًا إليها وجعله كفرًا بقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}([2]) وقوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}([3]) ولم يقبل منهم اعتذارهم بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. وحرم الله تعالى أيضًا على لسان نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- الذبح على القبور بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا عقر في الإسلام»، رواه أبو داود في سننه عن أنس. فقد كان من سنة الجاهلية الذبح على القبور وحرمه الله تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما حرم الذبح على النصب أي الأصنام. فمن ذبح على قبور الأولياء تقربًا إليهم فقد أحيا سنة الجاهلية التي أماتها الشرع العزيز قبله.
فإن قالوا نحن نذبح على اسم الله تعالى وعبدة الأصنام يذبحون على اسم الصنم، وهذا فرق بيننا وبينهم.
قلنا لهم هذا لا ينهض فرقًا ولا حجة لأنكم تذبحون على اسم الولي مع اسم الله تعالى فتقولون بسم الله هذه ذبيحتك أيها الشيخ فلان، واعتقادكم في حالة الذبح مع اسم الولي لا مع اسم الله تعالى، لأن الولي هو الذي تطلبون منه قضاء حوائجكم، فهو المقصد الأعظم عندكم. فذكركم لاسم الله تعالى عند الذبيح إنما هو صورة لفظ لا يصحبها قصد، ونظر الله تعالى إنما هو إلى القلوب لا إلى صورة اللفظ. فقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم»([4]). وقال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}([5]) ففي الحديث والآية التصريح بأن نظر الله تعالى مَنَاطُهُ نية العبد لا عمله ولا قوله. ومعلومً ضرورةً أن الذابحين على قبر الولي مقصودهم الأعظم إنما هو التقرب إلى ذلك الولي لا التقرب إلى الله. وكذلك إذا قلت لأحدهم إن كنت لا تقصد التقرب إلى الله تعالى بذبيحتك على قبر الولي فلان فاذبحها في بيتك على اسم الله فقط وتصدق بلحمها على المساكين فإنه لا يساعدك في ذلك أبدًا، ولا يقبل إلا ذبحها عند القبر.
فإن قالوا الفرق بين الذبح على قبر الولي والذبح على الصنم أن الصنم جماد والولي صالح من صلحاء الأمة المقربين عند الله فتعظيمه بالذبح ليس كتعظيم الجماد الذي هو الصنم، ونحن لا نقصد إلا تعظيم الولي ولا نقصد تعظيم القبر الذي هو جماد كالصنم.
قلنا لهم: تعظيمكم للولي بذبحكم على قبره بمنزلة تعظيم النصارى- لعنهم الله تعالى- في زعمهم لعيسى -عليه السلام- يذبحهم على صورة الصليب التي هي جماد.
فإن قالوا لسنا كالنصارى في ذلك فإن النصارى يعتقدون أن الصليب ربهم وأن عيسى ابن الله، تعالى الله عن ذلك كله علوًا كبيرًا، ونحن لا نعتقد في القبر أنه رب ولا أن صاحبه ابن الله تعالى.
قلنا لهم: أما قولكم إنكم لا تعتقدون في صاحب القبر أنه ابن الله فصحيح فإنكم لا تعتقدون ذلك ولا تقولونه بألسنتكم. وأما قولكم إنكم لا تعتقدون أنه رب فكذب، فإنكم وإن لم تقولوا بألسنتكم إنه ربكم فإنكم تعتقدون إثبات صفة الرب له فتعتقدون فيه التأثير بالنفع والضر، واعتقاد التأثير لغير الله تعالى كفر- أعاذنا الله منه-.
فإن قلتم نحن لا نعتقد فيه التأثير أصلًا.
قلنا لهم معيار ذلك أن تذبحوا في بيوتكم وتتصدقوا بلحم الذبيحة وتنووا ثواب الصدقة لأنفسكم أو لوالديكم وتتوسلون إلى الله في قضاء حوائجكم بعملكم الصالح هذا الذي هو الصدقة المذكورة، فإن توسل العبد إلى الله تعالى بعمله الصالح وردت به السنة الصحيحة كما في حديث أصحاب الصخرة الثلاثة الذين أواهم المطر إليه فانطبقت عليهم فتوسلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة فانفرجت عنهم. توسل أحدهم ببره لوالديه، وتوسل الثاني إلى الله تعالى بوفائه لأجيره في أدائه حقه إليه بعد نمائه، وتوسل الثالث بعفافه عن الزنى بمحبوبته بعدما مكنته من نفسها، وحديثهم أخرجه البخاري في صحيحه. فلو كنتم لا تعتقدون التأثير في الولي لما أتعبتم أنفسكم في سوق الذبيحة إلى قبره، فلولا اعتقادكم التأثير فيه ما سقتموها إليه بل ولا خصصتموه بها والله أعلم.
وقد أفتى العلماء قبلنا بتحريم الذبيحة على قبور الأولياء وقالوا إنها كالذبح على الأصنام. ففي روح المعاني للشيخ محمود الألوسي في تفسير قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}([6]) ما نصه: وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} الآية([7]).
إشارة إلى ذم المغالين في أولياء الله تعالى حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله تعالى وينذرون لهم النذور، والعقلاء منهم يقولون هم وسائلنا إلى الله تعالى وإنما ننذر لله عز وجل ونجعل ثوابه للولي. ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم ورد غائبهم أو نحو ذلك، والظاهر من حالهم الطلب لذلك. ويرشد إلى ذلك أنه لو قيل لهم انذروا لله تعالى واجعلوا ثوابه لوالديكم فإنهم أحوج من أولئك الأولياء لم يفعلوا، ورأيت كثيرًا منهم يسجد على أعتاب أحجار قبور الأولياء، ومنهم من يثبت لهم جميعًا التصرف في قبورهم لكنهم متفاوتون فيه بحسب تفاوت مراتبهم، والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة، وإذا طولبوا بالدليل قالوا ثبت ذلك بالكشف، قاتلهم الله تعالى ما أجهلهم وأكثر افترائهم! ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة وعلماؤهم يقولون إنما تظهر أرواحهم متشكلة وتطوف حيث شاءت، وربما تشكلت بصورة أسد أو غزال أو نحوه، وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام سلف الأمة. وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى والدهرية([8]) ، نسأل الله تعالى العفو والعافية.
وفي روح المعاني أيضًا في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}([9]) ما نصه: وقد يقال نظرًا لمفهوم الآية إنهم يندرج فيهم كل من أقر بالله وخالقيته مثلًا وكان مرتكبًا ما يعد كفرًا شرعًا كيفما كان. ومن أولئك عبدة القبور الناذرون لها المتعقدون للنفع والضر ممن الله تعالى أعلم بحاله فيها وهم اليوم أكثر من الدود. انتهى.
فبان لك أيها الناظر أن النذر للقبور والذبح عليها داخل في عموم الشرك- أعاذنا الله منه- لشمول قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} له. ومن علامة أنهم يعتقدون التأثير بالنفع والضر في أصحاب القبور أنهم ينفرون ممن يرشدهم إلى الاستغاثة بالله وحده والذبح له والتصدق بالمذبوح على المساكين، لا سيما إذا قال لهم هذا الولي الذي تذبحون على قبره لا ينفع ولا يضر فينفرون ممن يرشدهم إلى نحو هذا الرشد وتشمئز قلوبهم من كلامه، ويفرحون لمن يقول لهم الولي سيدي فلان لا يذبح أحدٌ على قبره لحاجة إلا قُضيت، ولا مريضٍ إلا برىء، ولا مكروبٍ إلا فرج عنه، فيستبشرون ويهشون لصاحب هذا الكلام الباطل الزائغ عن الحق، فيصدق عليهم قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}([10]) أعاذنا الله من حالهم وأرشدنا وإياهم إلى طريق الصواب. ومنهم من إذا نهيته عن الذبح على القبور والاستغاثة بهم وطلب النفع منهم وتلوت عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} الآية([11]) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ}([12]) وفسرت له الآية بأنها شاملةٌ لدعاء الأولياء والاستغاثة بهم لأنهم من الذين من دون الله تنكر لك وجهه ويكاد يبطش بك لو قدر فيصدق عليه قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَر}([13]) ففي هذه الآية والآيتين قبلها النعي على من يدعو الأولياء من دون الله ويتقرب إليهم بالذبح والله أعلم.
وأما مسألة طلب الحوائج من الأولياء أصحاب القبور والاستغاثة بهم من غير ذبح فجوابها، والله تعالى أعلم، أنها بدعة محرمة. ففي روح المعاني في تفسير قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}([14]) في أثناء المسودة ما نصه: ما أعظم هذه الآية، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} في النعي على من يستغيث بغير الله تعالى من الجمادات والأموات ويطلب منه ما لا يستطيع جلبه لنفسه أو دفعه عنها. وقال بعض أكابر الصوفية إن الاستغاثة بالأولياء محظورة إلا من عارف يميز بين الحدوث والقدم فيستغيث بالولي لا من حيث نفسه بل من حيث ظهور الحق فيه، فإن ذلك غير محظور لأنه استغاثة بالحق حينئذٍ. انتهى.
قال الشيخ محمود: وأنا أقول إن كان الأمر كذلك فما الداعي إلى العدول عن الاستغاثة بالحق من أول الأمر. وأيضًا إذا ساغت الاستغاثة بالولي من هذه الحيثية فلتسغ الصلاة والصوم وسائر العبادات له من تلك الحيثية أيضًا، ولعل القائل لذلك قائلٌ بهذا، بل قد رأيت لبعضهم ما يكون هذا القول بالنسبة إليه تسبيحًا ولا يكاد يجري قلمي أو يفتح فمي بذكره. فالطريق المأمون عند كل رشيد قصر الاستغاثة والاستعانة على الله عز وجل، فهو سبحانه الحي القادر العالم بمصالح عباده، فإياك والانتظام في سلك الذين يرجون النفع من غير الله تعالى. انتهى كلامه بلفظه. وقوله إذا ساغت الاستغاثة بالولي من هذه الحيثية فلتسغ الصلاة والصوم وسائر العبادة له من تلك الحيثية أيضًا، يعني به أن هذا هو عين القول باتحاد الحق تعالى مع المخلوق أو حلوله فيه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وقوله بل قد رأيت لبعضهم أي المتصوفة ما يكون هذا القول بالنسبة إليه تسبيحًا أي لصراحته في الكفر- أعاذنا الله من حالهم- ونظمنا في سلك أهل السنة الناجين بجاه سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي روح المعاني في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ما نصه: وقد رأينا كثيرًا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق أهوائهم واعتقادهم فيهم ويعظمون من يحكي لهم ذلك، وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره. وقد قلت يومًا لرجل يستغيث ببعض الأموات في شدة وينادي يا فلان أغثني فقلت قل يا الله فقد قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}([15]) فغضب وقال: فلانٌ ينكر على الأولياء. وسمعت عن بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابةً من الله عز وجل، وهذا القول من الكفر بمكان نسأل الله السلامة. انتهى.
وفي روح المعاني أيضًا في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}([16]) ما نصه: واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله وبين العباد، والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا. ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين: يا فلان ادع الله تعالى لي ليرزقني كذا وكذا، أو يزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة ويروون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، وكل ذلك بعيد من الحق. وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بالمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إذا كان المطلوب منه حيًا وحاضرًا ولا يتوقف على أفضليته من الطالب، بل قد يطلب الفاضل من المفضول أن يدعو له. فقد صح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر -رضي الله عنه- لما استأذنته في العمرة: «لا تنسنا يا أخي من دعائك»([17]) وأمره أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر له، وأمر أمته -صلى الله عليه وسلم- بطلب الوسيلة له وأن يصلوا عليه. وأما إذا كان المطلوب منه الدعاء غائبًا أو ميتًا فلا يستريب عالمٌ في أنه غير جائز وأنه من البدع التي لم يفعلها أحدٌ من السلف. نعم السلام على أهل القبور مشروع ومخاطبتهم جائزة. فقد صح أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون يرحم الله تعالى المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم»([18]). انتهى.
ثم قال بعد كلام طويل: وقد أفرط الناس اليوم في الإقسام على الله تعالى، أي بمخلوقاته. فأقسموا عليه- عز وشأنه- بمن ليس في العير ولا في النقير، وليس عنده من الجاه قدر قطمير. وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب القبور نحو شفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضالة وتيسير كل أمر عسير. وتوحي إليهم شياطينهم خبرًا: إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور. وهو حديث مُفترى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحدٌ من العلماء ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة. وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك، فكيف يتصور منه -عليه الصلاة والسلام- الأمر بالاستغاثة والطلب من أصحابها. سبحانك هذا بهتان عظيم. وعن أبي يزيد البسطامي- قدس سره- أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. ومن كلام السجاد -رضي الله تعالى عنه- أن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضله في عقله. ومن دعاء موسى -عليه السلام- وبك المستغاث. وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: «إذا استعنت فاستعن بالله تعالى» الحديث([19]). وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. انتهى.
ثم قال في آخر المسودة ما نصه: بقي ها هنا أمران، الأول أن التوسل بجاه غير النبي -صلى الله عليه وسلم- لا بأس به إذا كان المتوسل بجاهه ممن عُلم أن له جاهًا عند الله تعالى، كالمقطوع بصلاحه وولايته أي كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- وأضرابهم. وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه عز شانه، وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى. الثاني أن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء والأموات، مثل يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء. واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك وأن لا يحوم حول حماه، وقد عده ناس من العلماء شركًا وإن لا يكنه فهو قريب منه، ولا أرى أحدًا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المُغيب يعلم الغيب ويسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه ولا فتح فاه {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد. ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافقٌ يؤذي المؤمنين فقال الصديق -رضي الله تعالى عنه- قوموا بنا نستغيث برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا المنافق فجاؤوا إليه فقال: إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله تعالى، لم يشك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور الذين هم بين سعيدٍ شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه، والإصاخة إلى أهل ناديه، أمرٌ يجب اجتنابه، ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه. ولا يغرنك أن المستغيث بالمخلوق قد تٌقضى حاجته وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه عز وجل. وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات!! إنما هو شيطان أغواه، وزين له هواه. وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام، ليضل عبدتها الطغام. وبعض الجهلة يقولون إن ذلك من تطور روح المستغاث به أو من ظهور ملكٍ بصورته كرامةً له، ولقد ساء ما يحكمون، لأن التطور والظهور، وإن كانا ممكنين، لكن لا في مثل هذه الصورة، وعند ارتكاب هذه الجريرة، نسأل الله تعالى العافية. انتهى.
ثم قال، أي صاحب روح المعاني في تفسير قوله تعالى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس: 22] ما نصه: وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير في برٍ أو بحرٍ دعوا من لا يضر ولا ينفع، ولا يرى ولا يسمع. فمنهم من يستغيث بأحد الأئمة، ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة، ولا ترى أحدًا منهم يخص مولاه بتضرع ودعاء، فإلى الله تعالى المُشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة، وتلاطمت أمواج الضلالة، وخُرقت فيه سفينة الشريعة، واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف، وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف هــ.
فبان لك أيها الناظر تحريم النداء والتوسل بالأولياء الأحياء والأموات، وأن جواز ذلك مقصور على من قطع بولايته كالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ومن ورد النص من الشارع -صلى الله عليه وسلم- على أنه من أهل الجنة، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- وسائر العشرة([20]) نسأل الله بجاه عبده ونبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يعافينا من كل بلاء ومحنة، وأن يغفر لنا ولوالدينا والمسلمين أجمعين آمين يا أرحم الراحمين. أفتى به عبد ربه محمد يحيى بن محمد المختار، غفر الله له ولوالديه جميع الأوزار، آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) الآية 3 من سورة المائدة.
([4]) أخرجه مسلم (2564) عن أبي هريرة.
([5]) الآية 225 من سورة البقرة.
([8]) أصحاب الأديان المنسوخة هم اليهود والنصارى أما الدهرية فليسوا كذلك بل هم أصحاب نحل باطلة.
([10]) الآية 45 من سورة الزمر.
([11]) الآية 266 من سورة الحج.
([12]) الآية 20، 21 من سورة النحل.
([14]) الآية 50 من سورة النحل.
([15]) الآية 186 من سورة البقرة.
([16]) الآية 35 من سورة المائدة.
([17]) أخرجه أبو داوود (1498).
([18]) حديث صحيح رواه مسلم (974) .
([19]) أخرجه الترمذي (2516) وقال: حسن صحيح.
([20]) رأي شيخي الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب رحمهما الله
وأئمة الدعوة السلفية :أن هذا النوع من التوسل الذي هو دعاء الله مباشرة
وطلب النفع وكشف الضر منه بجاه نبي مرسل أو عبد قد ثبتت له الحسنى بنص شرعي
أنه بدعة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه من بعده ولا
تابعيهم ، ففعلها حرام وذريعة من ذرائع الشرك ، ويرون أن ما ذهب إليه
المؤلف من الخلاف الفقهي وإن كان مرجوحاً .
انظر : قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ،ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية .١/ ٢١١.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق