نص السؤال:
يحتجُّ بعضُ المسلمين ببعضِ الأحاديثِ على شرعيَّةِ الفِرَقِ الجهاديَّةِ الموجودةِ اليومَ، منها:
حديثُ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَقُولُ: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، قَالَ: «فَيَنْزِلُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صلَّى الله عليه وسلَّم فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ:
تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لاَ إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الأُمَّةَ»(١).
وحديثُ جابرِ بنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما: «لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»(٢).
نريد منكم شرحًا لهذه الأحاديثِ، وإذا كانت لا تنطبق على الفِرَقِ الجهاديةِ المعاصرةِ فعلى من تنطبق ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالطَّائفةُ الناجيةُ والمنصورةُ المذكورةُ في
الحديثِ إنَّما هي طائفةٌ متمسِّكةٌ بالإسلام المصفَّى المحض -علمًا
وعملاً، ظاهرًا وباطنًا- تقوم بما كان عليه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم
وأصحابُه رضي الله عنهم، لا تلتفت إلى أقوال المخالِفين، ولا يضرُّها
أراجيف المناوِئين والخاذلين، ولا تأخذها في الله لومة لائم، كما صحَّ عنه
صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللهِ مَا يَضُرُّهُمْ مَنْ كَذَّبَهُمْ (وفي روايةِ مسلمٍ: مَنْ خَذَلَهُمْ) وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»(٣)،
وهي جماعةٌ واحدةٌ لا تقبل التعدُّد والتشطير ولا الانقسام والتجزئة،
تمتدُّ من زمن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أوَّلَ الأمَّة إلى قيام
الساعة آخرَ الأمَّة، والمقصودُ جنسُ الطائفة من أجيالٍ تنقرض ويَخْلُفُهم
آخَرُون بنفس مقوِّمات الطائفة المنصورة الثابتة بأصولها ومنهجها ودعوتها
ورجالها، لا ينقطع وجودُها بل يستمرُّ على مرِّ العصور إلى قيام الساعة،
تُعْلِي كلمةَ الحقِّ، وتُظْهِرُ التوحيد والشرع، ويكون الدين معها عزيزًا
منيعًا قائمًا على تقوى من الله ورضوانٍ.
ومِن هنا يتبلور التلازُمُ بين هذه الطائفة
وعملها الجهادي، حيث يستمرُّ الجهاد معها ولا ينقطع، فهو باقٍ ما بقِيَ
الصراع بين الحقِّ والباطل، والإيمان والكفر، غيْرَ أنَّه قد يَعْظُم أثرُه
في بعض الأزمان ويَضْعُفُ في أزمانٍ أخرى، ويَكْثُرُ انتشارُه في أماكنَ
من الأرض ويَقِلُّ في أخرى بحَسَبِ البعد عن الكتاب والسنَّة والتلبُّس
بالبدع والفجور، وقد صوَّر ابن تيميَّة -رحمه الله- تواجُدَ الأمة المنصورة
في واقع المسلمين في عصره، حيث قال: «أمَّا الطائفة بالشام ومِصْرَ
ونحوِهما فهُمْ -في هذا الوقت- المقاتلون عن دين الإسلام، وهم مِن أحقِّ
الناس دخولاً في الطائفة المنصورة التي ذكرها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم
بقوله في الأحاديث الصحيحة المستفيضة عنه: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ
أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ
وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»(٤)، وفي روايةٍ لمسلم: «لاَ يَزَالُ أَهْلُ الغَرْبِ ..»(٥)»(٦)،
ثم قال -رحمه الله-: «ومن يتدبَّرْ أحوالَ العالَمِ في هذا الوقت يعلمْ
أنَّ هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام: علمًا وعملاً وجهادًا من
شرق الأرض وغربها؛ فإنَّهم هم الذين يقاتلون أهْلَ الشوكة العظيمة من
المشركين وأهل الكتاب، ومغازيهم مع النصارى ومع المشركين من الترك، ومع
الزنادقة المنافقين من الداخلين في الرافضة وغيرهم كالإسماعيلية ونحوهم من
القرامطة معروفةٌ معلومةٌ قديمًا وحديثًا، والعزُّ الذي للمسلمين بمشارق
الأرض ومغاربها هو بعزِّهم، ولهذا لمَّا هُزِمُوا سنةَ تسعٍ وتسعين
وستِّمائة دخل على أهل الإسلام من الذلِّ والمصيبة بمشارق الأرض ومغاربها
ما لا يعلمه إلا الله، والحكاياتُ في ذلك كثيرةٌ ليس هذا موضعَها، وذلك
أنَّ سكَّان اليمن -في هذا الوقت- ضعافٌ عاجزون عن الجهاد أو مضيِّعون له؛
وهم مطيعون لمن مَلَكَ هذه البلادَ حتى ذكروا أنهم أرسلوا بالسمع والطاعة
لهؤلاء، ومَلِكُ المشركين لمَّا جاء إلى حَلَبَ جرى بها من القتل ما جرى،
وأمَّا سكَّان الحجاز فأكثرُهم -أو كثيرٌ منهم- خارجون عن الشريعة، وفيهم
من البِدَعِ والضلال والفجور ما لا يعلمه إلا الله، وأهلُ الإيمان والدين
فيهم مستضعَفون عاجزون، وإنما تكون القوَّة والعزَّة -في هذا الوقت- لغير
أهل الإسلام بهذه البلاد، فلو ذلَّت هذه الطائفة -والعياذُ بالله تعالى-
لكان المؤمنون بالحجاز من أذلِّ الناس، لا سيَّما وقد غلب فيهم الرفضُ،
ومُلْكُ هؤلاءِ التتارِ المحاربين لله ورسوله الآن مرفوضٌ، فلو غلبوا لَفسد
الحجاز بالكلِّيَّة، وأمَّا بلاد إفريقيَّةَ فأعرابُها غالبون عليها وهُمْ
من شرِّ الخلق، بل هم مستحقُّون للجهاد والغزو، وأمَّا المغرب الأقصى فمع
استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم لا يقومون بجهاد النصارى هناك، بل في
عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصُّلْبَانَ خلقٌ عظيمٌ، لو استولى
التتارُ على هذه البلادِ لكان أهل المغرب معهم من أذلِّ الناس، لا سيَّما
والنصارى تدخل مع التتار فيصيرون حزبًا على أهل المغرب، فهذا وغيرُه مما
يبيِّن أنَّ هذه العصابة التي بالشام ومِصْرَ في هذا الوقت هم كتيبة
الإسلام، وعزُّهم عزُّ الإسلام، وذلُّهم ذلُّ الإسلام، فلو استولى عليهم
التتار لم يَبْقَ للإسلام عزٌّ ولا كلمةٌ عاليةٌ ولا طائفةٌ ظاهرةٌ عاليةٌ
يخافها أهل الأرض تقاتل عنه»(٧).
علمًا أنَّ الجهاد ماضٍ بحسَبِ نوعيَّته ومحلِّه، «وجهاد الكفَّار من أعظم الأعمال؛ بل هو أفضل ما تطوَّع به الإنسان»(٨)،
وهو من أسباب النصر والتمكين وبقاء عزَّة المسلمين، فقَدْ يكون جهاد
الكفَّار بحمل السلاح وقتالهم -وهو أصل الجهاد وأكبرُه-، وبذلِ المال
بتجهيز الغزاة وتقويتهم بأدوات الحرب، والتحريضُ باللسان بإقامة الحجَّة
ورفع الهمَّة إنما هو إعانةٌ لأهل الجهاد لنُبْلِ مهمَّتهم وتعضيد مواقفهم.
وجملةُ الجهاد بالمال واللسان -في هذا الحيِّز من جهة الحكم- تبعيَّتُه لأصل الجهاد باليد، و«التَّابِعُ فِي حُكْمِ المَتْبُوعِ» سواء في جهاد الطلب أو في جهاد الدفع، ويدلُّ عليه قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ»(٩)، قال الصنعاني: «الحديث دليلٌ على وجوب الجهاد بالنفس وهو بالخروج والمباشرة للكفَّار، والمالِ وهو بذلُه لما يقوم به من النفقة في الجهاد والسلاح ونحوه، وهذا هو المُفَادُ من عدَّة آياتٍ في القرآن: ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ٤١]، والجهادِ باللسان بإقامة الحجَّة عليهم ودعائِهم إلى الله تعالى وبالأصوات عند اللقاء والزجر ونحوه من كلِّ ما فيه نكايةٌ للعدوِّ: ﴿وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ [التوبة: ١٢٠]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم لحسَّانَ: «إِنَّ هَجْوَ الكُفَّارِ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ وَقْعِ النَّبْلِ»(١٠)»(١١).
هذا، وقد يكون الجهاد بالمال واللسان مستقلاًّ
عن الجهاد بالنفس واليد، ويختلف محلُّه عنه كما هو شأن جهاد المنافقين وأهل
البدع والأهواء في الظاهر، وللنفس والشيطان في الباطن كما دلَّت عليه
النصوصُ الشرعيَّة الأخرى، فيتنوَّع الجهاد إلى أربعِ مراتبَ: جهادِ النفس، وجهادِ الشيطان وجهادِ الكفَّار، وجهادِ المنافقين،
وأمَّا القتال فيكون -في الأصل- خاصًّا بالنفس من جهة أدواته: اليد والمال
واللسان، وخاصًّا بالكفَّار من جهة محلِّه -وهو الجهاد حقيقةً-، أمَّا
الجهاد بالمال واللسان فقد يقع على خصوص المنافقين وأهل الباطل والأهواء
وغيرهم، كما قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «وجهادُ الكفَّار أخصُّ باليد،
وجهادُ المنافقين أخصُّ باللسان»(١٢).
ولا يفوتني أن أذكِّرَ أنَّه في حالِ حدوثِ
تقطُّعٍ بين قتالٍ وقتالٍ -بسبب الاستضعاف أو العجز عن القيام به أو
تضييعِه بحَسَب الأقطار والبلدان- فذلك لا يُخْرِجه عن صفة الاستمرار إذا
كانت هذه الطائفة بكامل مقوِّماتها تقاتل في أي قطرٍ -شرقًا أو غربًا-، قال
عبد الرحمن بن حسن: «ولا ريب أنَّ فرْض الجهاد باقٍ إلى يوم القيامة،
والمخاطَبُ به المؤمنون، فإذا كان هناك طائفةٌ مجتمعةٌ لها مَنَعَةٌ وجب
عليها أن تجاهدَ في سبيل الله بما تقدر عليه، لا يسقط عنها فرضُه بحالٍ،
ولا عن جميع الطوائف»(١٣)،
فإن عُدِمَتِ المَنَعَةُ والإمكان عن بعض البلدان فلا مانِعَ يمنع سبيلَ
الدعوة إلى الله للقيام بالجهاد المعنوي بما تتطلَّبه مرحلةُ الضعف
والعجزِ، فطورُ البناء والإعداد -في حقيقة الأمر- تواصلٌ واستمرارٌ، مع
بقاء جهاد الكفَّار –عمومًا- بما تسعه مرحلةُ الضعف من إمكانات المحافظة
على بيضة المسلمين من أعداء الإسلام والدِّين، ويبقى الجهادُ قائمًا لا
يسقط في حالٍ دون حالٍ.
ثمَّ ينبغي أن يُعْلَمَ أنَّ قتال الكفَّار
المادِّيَّ والبشريَّ يصير فرْضَ عينٍ على كلِّ مسلمٍ في ردِّ عدوان
الكفَّار عن أرض الإسلام وإزالتِهم عنها إذا نزلوا بساحتها قولاً واحدًا لا
اختلافَ فيه، فهذا هو جهادُ الدفع لأنَّ «دَفْعَ ضررهم عن الدين والنفس
والحرمة واجبٌ إجماعًا»(١٤)،
ولا يستوجب نوعُ هذا الجهاد شرطًا زائدًا عن الإمكان في وُسعه والقدرة في
حدودها، وقد بيَّن ابن تيميَّة -رحمه الله- الفرْق بين نوعَيِ الجهاد:
الدفعِ والطلبِ، حيث قال: «وأمَّا قتال الدفع فهو أشدُّ أنواع دفع الصائل
عن الحرمة والدِّين فواجبٌ إجماعًا، فالعدوُّ الصائل الذي يُفسد الدين
والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يُشترط له شرطٌ، بل يُدفع
بحسب الإمكان، وقد نصَّ على ذلك العلماء: أصحابُنا وغيرهم، فيجب التفريق
بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده»(١٥).
وقتال الكفَّار في جهاد الطلب يحتاج إلى شروطِ وجوبٍ(١٦)،
لكنْ لا يمنع أن يكون أمْرُ الجهاد موكولاً إلى الإمام القائم به في كلا
نوعَيْه: الدفعِ والطلبِ، غايةُ ما في الأمر أنه في جهاد الطلب آكَدُ منه
في جهاد الدفع، فلا يُتقدَّم فيه بين يديه ولا يُفتأت عليه، فلا يكون
القتالُ إلا بإذنه ما لم يتحسَّسوا مفاجأةَ عدوٍّ يخافون كَلَبَه، قال ابنُ
قدامةَ -رحمه الله-: «وأمرُ الجهاد موكولٌ إلى الإمام واجتهاده، ويَلْزَم
الرعيَّةَ طاعتُه فيما يراه من ذلك»(١٧)،
وقال -رحمه الله- في موضعٍ آخرَ: «لا يخرجون إلاَّ بإذن الأمير؛ لأنَّ
أمْرَ الحرب موكولٌ إليه، وهو أعلمُ بكثرة العدوِّ وقلَّتهم، ومكامن
العدوِّ وكيدهم، فينبغي أن يُرجعَ إلى رأيه، لأنه أحوطُ للمسلمين؛ إلا أن
يتعذَّر استئذانُه لمفاجأة عدوِّهم لهم، فلا يجب استئذانُه، لأنَّ المصلحةَ
تتعيَّن في قتالهم والخروج إليه، لتعيُّن الفساد في تركِهم»(١٨)،
فتعيَّن -والحال هذه- استئذان الإمام العامِّ في جهاد الكفَّار إلاَّ في
ظروفٍ استثنائية والمقاتلةُ معه إن أمكن، وعدمُ إبعاده وحملِ السلاح عليه،
ذلك لأنَّ مِن أصول أهل السنَّة: لزومَ الجماعة وترْكَ قتال الأئمَّة
وترْكَ القتال في الفتنة(١٩)،
فأهلُ السنَّة يَرَوْنَ -إذنْ- وجوبَ الاجتماع على منهاج النبوَّة وعلى ما
كان عليه السلف الصالح، ومِنْ تمامِ هذا الاجتماع: السمعُ والطاعة في
المعروف لِمَن تأمَّرَ علينا ولو كان عبدًا حبشيًّا، مهما كانت صفة عدالته،
فالجهادُ ماضٍ مع البَرِّ والفاجر من الولاة، والطائفةُ المنصورةُ ترى
وجوب إقامة جهاد المشركين والجُمَعِ والأعيادِ وغيرها من شعائر الإسلام
الجماعيَّة مع ولاة الأمور سواء كانوا صالحين أو فُسَّاقًا فسقًا غيْرَ
مُخْرِجٍ من الملَّة، قال ابن بطَّالٍ -رحمه الله-: «والفقهاءُ مجمعون على
أنَّ الإمامَ المتغلِّبَ طاعتُه لازمةٌ، ما أقام الجُمُعاتِ والجهادَ،
وأنَّ طاعته خيرٌ من الخروج عليه؛ لِمَا فى ذلك من حقن الدماء وتسكين
الدهماء»(٢٠)،
ذلك لأنَّ إبعادَهم فُرْقَةٌ وخلافٌ وسببٌ لتشتُّتِ كلمة المسلمين،
ويترتَّب عليه من إراقة الدماء وضياع الحقوق وعدم استقرار الأمن ما
يُضْعِفُ شوكةَ المسلمين ويُسَلِّطُ عليهم الأعداءَ، قال ابن حجر -رحمه
الله- في تعليقه على حديث: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ»(٢١):
«والمرادُ بالشرِّ ما وقع بعده من قتل عثمانَ ثم توالَتِ الفِتَنُ حتى
صارت العرب بين الأُمَم كالقصعة بين الأَكَلَة كما وقع في الحديث الآخَر»(٢٢)،
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: «فالصبرُ على طاعة الإمام الجائر أَوْلى
من الخروج عليه، لأنَّ في منازَعته والخروج عليه: استبدالَ الأمن بالخوف،
وإراقةَ الدماءِ، وانطلاقَ أيدي الدهماء، وتبييتَ الغاراتِ على المسلمين، والفسادَ في الأرض وهذا أعظمُ من الصبر على جَوْر الجائر»(٢٣)،
وقال ابن تيميَّة -رحمه الله-: «ولهذا كان المشهورُ من مذهب أهل السنَّة
أنهم لا يَرَوْن الخروجَ على الأئمَّة وقتالَهم بالسيف -وإن كان فيهم
ظلمٌ-، كما دلَّتْ على ذلك الأحاديثُ الصحيحة المستفيضة عن النبي صلَّى
الله عليه وسلَّم، لأنَّ الفساد في القتال والفتنة أعظمُ من الفساد الحاصل
بظلمهم بدون قتالٍ ولا فتنةٍ، فيُدْفَع(٢٤) أعظمُ الفسادين بالتزام أدناهما، ولعلَّه لا يكاد يُعْرَفُ طائفةٌ خرجتْ على ذي سلطانٍ إلاَّ وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته»(٢٥).
وليس معنى ذلك جوازَ إقرارِ الحكَّام وولاة
الأمور على ما هم عليه من المعاصي والمخالفات الشرعية، وإنما الواجب كراهية
مخالفاتهم وإنكارُها في حدودِ ما وسعه من قدرةٍ على المناصحة والتغيير، من
غيرِ نزعِ يدٍ من طاعةٍ أو إحداثِ موجاتٍ من الاضطرابات والمشاغَبات
والمظاهَرات والاعتصامات وتوزيع المنشورات، وأنواع السباب والشتائم والقذف
الموجَّه للسلطان وأعوانه، أو الخروج عليه بالحديد والنار، وغيرها من وسائل
الإخلال بالأمن والاستقرار، سواء كان الخروج عليه منتظمًا على هيئة فِرَقٍ
حزبيَّةٍ جهاديَّةٍ، أو غيرَ منتظمٍ كما هو حالُ الثُّوَّار الذين لم
يصبروا على جَوْر الحكَّام وظُلْمهم، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَلاَ
مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ
اللهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلاَ يَنْزِعَنَّ
يَدًا مِنْ طَاعَةٍ»(٢٦)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ
كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ
أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ
إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(٢٧).
ومن منطلقِ هذا المعتقد، فلا شرعيَّةَ للفِرَق
الجهاديَّة المعاصِرة القائمة على الخروج على الحاكم المسلم، والثائرة عليه
بالحديد والنار، كما لا شرعيَّةَ لهم في مقاتلة الكفَّار إلاَّ بإذن
الإمام العامِّ القائم بالجهاد، أو تحت إمارته أو إشرافه، أو تحت إمارة من
عيَّنهم لأمر الجهاد، ويلزم الرعيةَ طاعتُه فيما يراه من ذلك، إلاَّ إذا
عُدم الإمامُ العامُّ أو عطَّل فريضةَ الجهاد من غيرِ مسوِّغٍ شرعيٍّ
مقبولٍ، أو خُشي فواتُ مصلحةٍ في جهادِ دفعٍ، أو خِيفَ فيه كَلَبُ العدوِّ
المتربِّص أن يباغتَ الأنفُسَ والذرارِيَ، ففي مثل هذه الأحوال لا يُشترط
استئذان الإمام العامِّ ولا الجهادُ معه.
قال الإمام أحمد -رحمه الله-: «إن كانوا يخافون
على أنفسهم وذراريهم فلا بأْسَ أن يقاتلوا من قبلِ أنْ يأذنَ لهم الأمير،
ولكنْ لا يقاتلوا إذا لم يخافوا على أنفسهم وذراريهم إلاَّ أن يأذنَ
الإمامُ»(٢٨).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-: «فإن عُدم الإمامُ لم يُؤَخَّرِ الجهاد؛ لأنَّ مصلحته تفوت بتأخيره»(٢٩).
هذا، والحديث المذكور في السؤال فيه إشارةٌ إلى
أنَّ القتال كان بإذن الإمام العامِّ وتحت إمارته، وقد عقَّب الشيخ محمَّد
ناصر الدين الألباني -رحمه الله- على كلمة: «أَمِيرُهُمْ» بأنه
المهدي: وهو محمَّد بن عبد الله الذي يؤمُّ هذه الأمة في آخِر الزمان،
ويصلِّي خلفه عيسى ابن مريم عليه السلام، كما تضافرتْ بذلك الأحاديث
بأسانيدَ بعضُها صحيحٌ وبعضُها حسنٌ(٣٠).
وضِمْنَ هذا المعنى، قال الآجريُّ -رحمه الله-:
«قد ذكرتُ من التحذير من مذاهب الخوارجِ ما فيه بلاغٌ لمن عصمه الله تعالى
عن مذهب الخوارج، ولم يَرَ رأيَهم، وصبر على جَوْر الأئمَّة وحَيْف الأمراء، ولم يخرجْ عليهم بسيفه، وسأل اللهَ تعالى كشْفَ الظلم عنه وعن المسلمين، ودعا للوُلاة بالصلاح، وحجَّ معهم، وجاهد معهم كلَّ عدُوٍّ للمسلمين
وصلَّى معهم الجُمُعةَ والعيدين، فإنْ أمروه بطاعةٍ فأمكنه أطاعهم، وإن لم
يُمكنْه اعتذر إليهم، وإن أمروه بمعصيةٍ لم يُطِعْهم، وإذا دارت الفِتَنُ
بينهم لزم بيتَه وكفَّ لسانَه ويدَه، ولم يَهْوَ ما هم فيه، ولم يُعِنْ على
فتنةٍ، فمَنْ كان هذا وصْفَه كان على الصراط المستقيم إن شاء الله»(٣١).
وأخيرًا، فإنَّ البلد الذي يعاني أبناؤه من
ضعفٍ في عقيدتهم، وعجزٍ عن القيام بأمر الجهاد، فإنَّ مرحلتَه التي يمرُّ
بها تتطلَّب دعوةً هدفُها العملُ على إيجادِ أمَّةٍ صالحةٍ فيه تجاهد في
سبيلِ الله بحسب ما تحتاج إليه المرحلةُ من إعدادٍ وبناءٍ من جهةٍ؛ لقوله
تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: ٢]، وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ
أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ
مُبِينٍ﴾ [آل عمران: ١٦٤]، وإقامةِ الحجَّة لله على المشركين والكافرين من جهةٍ أخرى؛ لقوله تعالى: ﴿رُسُلاً
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ١٦٥].
ذلك لأنَّ الغرض الأسمى من هذا الجهاد
الدَّعَوِيِّ هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإرشادُهم إلى صراط
الله المستقيم، لكنَّ هذا لا يمنع من وجودِ طائفةٍ لها مَنَعَةٌ تجاهد في
سبيل الله بما تقدر عليه، ففرضُ الجهاد باقٍ إلى يوم القيامة لا يسقط
بحالٍ، وكلٌّ مستعمَلٌ في طاعة الله تعالى، وقد جاء في الحديث: «لاَ يَزَالُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ بِغَرْسٍ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ»(٣٢).
والطائفةُ المنصورة -بين هذه وتلك- لا تزال
بمقوِّماتها تجاهد بمختلف أنواع الجهاد بالنفس والمال والدعوة إلى الله
بالحجَّة والبرهان، كلُّ ذلك لتحقيق مهمَّةِ أمَّة الإسلام في الجهاد التي
أجملها رِبْعِيُّ بن عامرٍ رضي الله عنه حين أرسله سعد بن أبي الوقَّاص رضي
الله عنه إلى رُسْتُمَ قائدِ الفرسِ، فقال له رستمُ: «لماذا جئتم؟»، فقال:
«اللهُ ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ
إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سَعَتِهَا، وَمِنْ
جَوْرِ الأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الإِسْلاَمِ»(٣٣).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٨ رجب ١٤٣١ﻫالموافق ﻟ: ٣٠ جوان ٢٠١٠م
(١) أخرجه مسلم في «الإيمان» (١/ ٨١) رقم (١٥٦)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(٢) أخرجه مسلم في «الإمارة» (٢/ ٩٢٥) رقم (١٩٢٢)، وأحمد في «مسنده» (٢٠٩٨٥)، من حديث جابر بن سمرة بن جنادة بن جندب رضي الله عنهما.
(٣) أخرجه البخاري في «التوحيد» باب قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (٧٤٦٠)، ومسلم في «الإمارة» (٢/ ٩٢٥) رقم (١٠٣٧)، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
(٤) الحديث
واردٌ في الصحيحين وغيرهما بألفاظ عدَّة، منها: ما أخرجه مسلم في
«الإمارة» (٢/ ٩٢٥) رقم (١٠٣٧)، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله
عنهما، ولفظه بتمامه: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً
بِأَمْرِ اللهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى
يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ».
(٥) أخرجه مسلم في الإمارة (٢/ ٩٢٦) رقم (١٩٢٥) من حديث سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه، ولفظه: «لاَ يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ».
(٦) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٨/ ٥٣١).
(٧) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٨/ ٥٣٢-٥٣٤).
(٨) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١١/ ١٩٧).
(٩) أخرجه
أحمد في «مسنده» (١٢٢٤٦)، وأبو داود في «الجهاد» (٢٥٠٤) باب كراهية ترك
الغزو، من حديث أنس رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح
الجامع» (٣٠٩٠).
(١٠) أخرجه
مسلم «فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم» (٢/ ١١٦٣) رقم (٢٤٩٠) من حديث
عائشة رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ: «اهْجُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ»، وذكرتْ فيه إرسالَه إلى ابن رواحة ثم كعب بن مالك ثم حسَّان وفيه قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم لحسَّان: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لاَ يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ».
(١١) «سبل السلام» للصنعاني (٢/ ٤٦٠).
(١٢) «زاد المعاد» لابن القيِّم (٣/ ١١).
(١٣) «الدرر السنية» (٨/ ٢٠٢).
(١٤) «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (٥/ ٥٣٧).
(١٥) «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (٥/ ٥٣٨).
(١٦) وشروط
وجوب الجهاد: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والذكورة، والقدرة على مؤنة
الجهاد، والسلامة من الضرر، ومن يمنعه الإمام الحاكم من الخروج في الجهاد،
انظر: «التاج والإكليل» للمواق (٤/ ٥٣٨)، «الموسوعة الكويتية» (١٦/ ١٣٧).
(١٧) «المغني» لابن قدامة (٩/ ٢٠٢).
(١٨) «المغني» لابن قدامة (٩/ ٢١٣).
(١٩) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٨/ ١٢٨).
(٢٠) «شرح صحيح البخاري» لابن بطَّال (١٠/ ٨).
(٢١) أخرجه
البخاري في «أحاديث الأنبياء» باب قصة يأجوج ومأجوج (٣٣٤٦)، ومسلم في
«الفتن وأشراط الساعة» (٢/ ١٣١٦) رقم (٢٨٨٠)، من حديث زينب بنت أبي سلمة،
عن أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن زينب بنت جحش رضي الله عنهم.
(٢٢) «فتح الباري» لابن حجر (١٣/ ١٠٧).
(٢٣) «الاستذكار» لابن عبد البر (١٤/ ٤٠).
(٢٤) وفي الأصل: «فلا يُدْفَعُ»، وهو خطأ.
(٢٥) «منهاج السنة النبوية» لابن تيمية (٣/ ٢٣١).
(٢٦) أخرجه مسلم في «الإمارة» (٢/ ٩٠٠) رقم (١٨٥٥)، من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.
(٢٧) أخرجه البخاري في «الفتن» (٧٠٥٣) باب قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا»، ومسلم في «الإمارة» (٢/ ٨٩٨) رقم (١٨٤٩) واللفظ له، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(٢٨) «مسائل الإمام أحمد» رواية ابنه عبد الله (٢٥٩).
(٢٩) «المغني» لابن قدامة (٩/ ٢٠٢).
(٣٠) انظر: «سلسلة الأحاديث الصحيحة» للألباني (٥/ ٢٧٨، ٣٧١-٣٧٢).
(٣١) «الشريعة» للآجري (٤٠).
(٣٢) أخرجه
أحمد في «مسنده» (١٧٧٨٧)، وابن ماجه: باب اتِّباع سنة رسول الله صلَّى
الله عليه وسلَّم (٨)، من حديث أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه. والحديث
حسَّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٥/ ٥٧١) رقم: (٢٤٤٢).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق