الأربعاء، 28 أغسطس 2013

الْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ - شيخ الاسلام إبن تيمية

سئل شيخ الاسلام إبن تيمية في مجموع الفتاوى (35/ 53): عَنْ " الْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ "


هَلْ هِيَ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ؟ أَمْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟ وَهَلْ فَرَّقَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَحْكَامِ الْجَارِيَ
ةِ عَلَيْهِمَا أَمْ لَا ؟ وَإِذَا ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ الْأَئِمَّةَ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ إلَّا فِي الِاسْمِ ؛ وَخَالَفَهُ مُخَالِفٌ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَّقَ بَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ النهروان : فَهَلْ الْحَقُّ مَعَ الْمُدَّعِي ؟ أَوْ مَعَ مُخَالِفِهِ ؟

فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنْ الْأَئِمَّةَ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي الِاسْمِ . فَدَعْوَى بَاطِلَةٌ وَمُدَّعِيهَا مُجَازِفٌ فَإِنَّ نَفْيَ الْفَرْقِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي " قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ " فَإِنَّهُمْ قَدْ يَجْعَلُونَ قِتَالَ أَبِي بَكْرٍ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ وَقِتَالَ عَلِيٍّ الْخَوَارِجَ وَقِتَالَهُ لِأَهْلِ الْجَمَلِ وصفين إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قِتَالِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ . مِنْ بَابِ " قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ " ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مِثْلَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِ وَلَا فِسْقٍ ؛ بَلْ مُجْتَهِدُونَ : إمَّا مُصِيبُونَ وَإِمَّا مُخْطِئُونَ . وَذُنُوبُهُمْ مَغْفُورَةٌ لَهُمْ . وَيُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْبُغَاةَ لَيْسُوا فُسَّاقًا فَإِذَا جُعِلَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ سَوَاءً لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْخَوَارِجُ وَسَائِرُ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْبَاقِينَ عَلَى الْعَدَالَةِ سَوَاءً ؛

وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ بِفِسْقِ الْبُغَاةِ وَلَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ . وَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ " الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ " وَبَيْنَ " أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين " وَغَيْرِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين . مِمَّنْ يُعَدُّ مِنْ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ .

وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَعَلَيْهِ نُصُوصُ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ : مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ } وَهَذَا الْحَدِيث يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْمَارِقِينَ نَوْعٌ ثَالِثٌ لَيْسُوا مِنْ جِنْسِ أُولَئِكَ ؛ فَإِنَّ طَائِفَةَ عَلِيٍّ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ طَائِفَةِ مُعَاوِيَةَ . وَقَالَ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ : { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي لَفْظٍ : { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ } .

وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَحَادِيثَهُمْ فِي الصَّحِيحِ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ وَرَوَى هَذَا الْبُخَارِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ ؛ وَهِيَ مُسْتَفِيضَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَلَقَّاةٌ بِالْقَبُولِ أَجْمَعَ عَلَيْهَا عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجِ . وَأَمَّا " أَهْلُ الْجَمَلِ وصفين " فَكَانَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَاتَلَتْ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَأَكْثَرُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ لَمْ يُقَاتِلُوا لَا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَلَا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَاسْتَدَلَّ التَّارِكُونَ لِلْقِتَالِ بِالنُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَبَيَّنُوا أَنَّ هَذَا قِتَالُ فِتْنَةٍ . وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَسْرُورًا لِقِتَالِ الْخَوَارِجِ وَيَرْوِي الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ ؛ وَأَمَّا قِتَالُ " صَفِّينَ " فَذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ نَصٌّ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَآهُ وَكَانَ أَحْيَانًا يَحْمَدُ مَنْ لَمْ يَرَ الْقِتَالَ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَسَنِ إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَقَدْ مَدَحَ الْحَسَنَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِإِصْلَاحِ اللَّهِ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ : أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ كَانَ أَحْسَنَ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْقِتَالُ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا . " وَقِتَالُ الْخَوَارِجِ " قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُسَوِّي بَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ وَبَيْنَ مَا مَدَحَ تَارِكَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ .

فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ قِتَالِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ اقْتَتَلُوا بِالْجَمَلِ وصفين وَبَيْنَ قِتَالِ ذِي الخويصرة التَّمِيمِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ والحرورية الْمُعْتَدِينَ : كَانَ قَوْلُهُمْ مِنْ جِنْسِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ الْمُبِينِ . وَلَزِمَ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَصِيرَ مِنْ جِنْسِ الرَّافِضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَوْ يُفَسِّقُونَ الْمُتَقَاتِلَيْنِ بِالْجَمَلِ وصفين كَمَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ ؛ فَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فِي كُفْرِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى الصَّحَابَةِ الْمُقْتَتِلِينَ بِالْجَمَلِ وصفين وَالْإِمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ . فَكَيْفَ نِسْبَةُ هَذَا بِهَذَا وَأَيْضًا { فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلُوا } .

وَأَمَّا " أَهْلُ الْبَغْيِ " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِيهِمْ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } فَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِ الْبَاغِيَةِ ابْتِدَاءً . فَالِاقْتِتَالُ ابْتِدَاءً لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ ؛ وَلَكِنْ إذَا اقْتَتَلُوا أَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ ؛ ثُمَّ إنْ بَغَتْ الْوَاحِدَةُ قُوتِلَتْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ الْبُغَاةَ لَا يُبْتَدَءُونَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُقَاتِلُوا . وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ : { أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : { لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } . وَكَذَلِكَ مَانِعُو الزَّكَاةِ ؛ فَإِنَّ الصِّدِّيقَ وَالصَّحَابَةَ ابْتَدَءُوا قِتَالَهُمْ قَالَ الصِّدِّيقُ : وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهِ . وَهُمْ يُقَاتَلُونَ إذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْوُجُوبِ . ثُمَّ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي كُفْرِ مَنْ مَنَعَهُمَا وَقَاتَلَ الْإِمَامُ عَلَيْهَا مَعَ إقْرَارِهِ بِالْوُجُوبِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد كَالرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِ الْخَوَارِجِ وَأَمَّا أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُجَرِّدِ فَلَا يَكْفُرُونَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَصَّ عَلَى إيمَانِهِمْ وَإِخْوَتِهِمْ مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق