الجمعة، 13 سبتمبر 2013

في بيان ما على الإنسان لأخيه من الحقوق - من مختصر منهاج القاصدين

في بيان ما على الإنسان لأخيه من الحقوق

قال ابن قدامة رحمه الله في مختصر منهاج القاصدين :

الحق الأول: قضاء الحاجات والقيام بها، وذلك درجات:


 أدناها: القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة، لكن مع البشاشة والاستبشار.

وأوسطها: القيام بالحوائج من غير سؤال.

وأعلاها: تقديم حوائجه على حوائج النفس.

وقد كان بعض السلف يتفقد عيال أخيه بعد موته أربعين سنة فيقضى حوائجهم.

الحق الثانى: على اللسان بالسكوت تارة، وبالنطق


أخرى.أما السكوت، فهو أن يسكت عن ذكر عيوبه فى حضوره وغيبته، وعن الرد عليه ومماراته ومناقشته، وعن السؤال عما يكره ظهوره من أحواله. ولا يسأله إذا لقيه: إلى أين؟ فربما لا يريد إعلامه بذلك، وأن يكتم سره ولو بعد القطيعة، ولا يقدح فى أحبابه وأهله، ولا يبلغه قدح غيره فيه.

الحق الثالث: وينبغى أن يسكت عن كل ما يكرهه، إلا إذا وجب عليه النطق في أمر بمعروف أو نهى عن منكر ولم يجد رخصة فى السكوت، فإن مواجهته بذلك إحسان إليه فى المعنى.


واعلم: أنك إن طلبت منزهاً عن كل عيب لم تجد، ومن غلبت محاسنه على مساويه فهو الغاية.

وقال ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات. وقال الفضيل: الفتوة: الصفح عن زلات الإخوان. وينبغى أن تترك إساءة الظن بأخيك، وأن تحمل فعله على الحسن مهما أمكن، وقد قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: "وإياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث".

واعلم: أن سوء الظن يدعو إلى التجسس المنهى عنه، وأن ستر العيوب والتغافل عنها سيمة أهل الدين.

واعلم: أنه لا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأقل درجات الأخوة أن يعامل أخاه بما يحب أن يعامله به، ولا شك أنك تنتظر من أخيك أن يستر عورتك، وأن يسكت عن مساويك، فلو ظهر لك منه ضد ذلك اشتد عليك فكيف تنتظر منه مالا تعزم عليه له؟

ومتى التمست من الأنصاف مالا تسمح به دخلت فى قول الله تعالى: {الذين إذا

اكتالوا على الناس يستوفون* وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} [سورة المطففين:2-3]. منشأ التقصير فى ستر العورة والمغرى بكشفها الحقد والحسد.

واعلم: أن من أشد الأسباب لإثارة الحقد والحسد بين الإخوان المماراة، ولا يبعث عليها إلا إظهار التميز بزيادة الفضل والعقل واحتقار المردود عليه، ومن مارى اخاه، فقد نسبه إلى الجهل والحمق، أو إلى الغفلة والسهو عن فهم الشىء على ما هو عليه. وكل ذلك استحقار، وهو يوغر الصدر ويوجب المعادة، وهو ضد الأخوة.

الحق الرابع: على اللسان بالنطق، فإن الأخوة كما تقتضى السكوت عن المكروه، تقتضى النطق بالمحبوب، بل هو أخص بالأخوة، لأن من قنع بالسكوت صحب أهل القبور، وإنما يراد الإخوان ليستفاد منهم لا ليتخلص منهم، لأن السكوت معناه كف الأذى، فعليه أن يتودد إليه بلسانه، ويتفقده فى أحواله، ويسأل عما عرض له، ويظهر شغل قلبه بسببه، ويبدى السرور بما يسر به.

وفى الصحيح من رواية الترمذى : "إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه". ومن ذلك أن يدعوه بأحب أسمائه إليه، قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه:

ثلاث يصفين لك ود أخيك: تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له فى المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليك. ومن ذلك أن يثنى عليه بما يعرفه من محاسن أحواله عند من يؤثر الثناء عنده، وكذلك الثناء على أولاده وأهله وأفعاله، حتى فى خلقه وعقله وهيئته وخطه وتصنيفه وجميع ما يفرح به من غير إفراط ولا كذب. وكذلك أن تشكره على صنيعه فى حقك، وأن تذب عنه فى غيبته إذا قصد بسوء، فحق الأخوة التشمير فى الحماية والنصرة. وفى الحديث الصحيح: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه”، ومتى أهمل الذب عن عرضه يكون قد أسلمه، ولك فى ذلك معياران:

أحدهما: أن تقدر أن الذى قيل فيه، قد قيل فيك وهو حاضر، فتقول ما تحب أن يقوله.

الثانى: أن تقدر أنه حاضر وراء جدار يتسمع عليك، فما تحرك فى قلبك من نصرته فى حضوره ينبغى أن يتحرك فى غيبته. ومن لم يكن مخلصاً فى إخائه فهو منافق. ومن ذلك التعليم والنصيحة، فليس حاجة أخيك إلى العلم بأقل من حاجته إلى المال، وإذا كنت غنياً بالعلم فواسه وأرشده.

وينبغى أن يكون نصحك إياه سراً، والفرق بين التوضيح والنصيحة الإعلان والإسرار، كما أن الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الأعضاء، فإن أغضيت لسلامة دينك ولما ترى فيه إصلاح أخيك بالإعضاء، فأنت مدار، وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن.ومن ذلك: العفو عن الزلات، فإن كانت زلته فى دينه فتلطف فى نصحه مهما أمكن، ولا تترك زجره ووعظه، فإن أبى فالمصارحة:

الحق الخامس: الدعاء للأخ فى حياته وبعد موته بكل ما تدعو به لنفسك.

وفى أفراد مسلم من حديث أبى الدرداء، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: "دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما

دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل". وكان أبو الدرداء رضى الله عنه يدعو لخلق كثير من إخوانه يسميهم بأسمائهم. وكان أحمد بن حنبل رحمه الله يدعو فى السحر لستة نفر.

وأما الدعاء بعد الموت، فقال عمرو بن حريث: إذا دعا العبد لأخيه الميت، أتى بها ملك قبره، فقال: يا صاحب القبر الغريب، هذه هدية من أخ عليك شفيق.

الحق السادس: الوفاء والإخلاص، ومعنى الوفاء: الثبات على الحب إلى الموت، وبعد موت الأخ مع أولاده وأصدقائه، وقد أكرم النبى صلى الله عليه وآله وسلم عجوزاً وقال: "إنها كانت تغشانا فى أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان". ومن الوفاء أن لا يتغير على أخيه فى التواضع وإن ارتفع شأنه واتسعت ولايته وعظم جاهه.


واعلم: أن ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الدين، فقد كان الشافعى رحمه الله آخى محمد بن عبد الحكم، وكان يقربه ويقبل عليه، فلما احتضر قيل له: إلى من نجلس بعدك يا أبا عبد الله؟ فاستشرف له محمد بن عبد الحكم وهو عند رأسه ليومئ إليه فقال: إلى أبى يعقوب البويطى، فانكسر لها محمد، ومع أن محمدا كان قد حمل مذهبه، لكن البويطى كان أقرب إلى الزهد والورع، فنصح الشافعى رحمه الله المسلمين وترك المداهنة، فانقلب ابن الحكم عن مذهبه، وصار من أصحاب مالك. ومن الوفاء أن لا يسمع بلاغات الناس على صديقه، ولا يصادق عدو صديقه.

الحق السابع: التخفيف وترك التكليف [والتكليف] ،


 وذلك أن لا يكلف أخاه ما يشق عليه، بل يروح سره عن مهماته وحاجاته، ولا يستمد من جاهه ولا ماله، ولا يكلفه التفقد لأحواله والقيام بحقوقه والتواضع له، ويكون قصده بمحبته الله وحده، والتبرك بدعائه، والاستئناس بلقائه، والاستعانة على دينه، والتقرب إلى الله تعالى بالقيام بحقوقه، وتمام التخفيف طى بساط الاحتشام حتى لا يستحى منه فيما لا يستحى فيه من نفسه. قال جعفر بن محمد: أثقل إخوانى على من يتكلف لى وأتحفظ منه، وأخفهم على قلبى من أكون معه كما أكون وحدى.

وقال بعض الحكماء: من سقطت كلفته دامت ألفته، ومن تمام هذا الأمر أن ترى الفضل من أكون معهم منزلة الخادم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق